علمنا مما سبق أن المنطق هو قواعد نظرية من اجتهاد رجل يوناني أراد به غرضاً معيناً - هو الرد على السفسطة - وسواء وُفق هذا الرجل في عمله أو لم يوفق، فإنه من المبالغة القصوى والتقديس المتناهي أن يقال: إن ما وضع من رأي واجتهاد هو معيار المعرفة الإنسانية الذي تعصم مراعاته الذهن من الخطأ
والذي لا نستطيع بغيره أن ندافع عن ديننا ونصد هجمات الملحدين والمشككين، ولا فيما هو أعظم من ذلك؛ وهو معرفة الحقائق الشرعية، ولا فيما هو أعظم؛ وهو معرفة صفات الله تعالى ما نثبته منها وما ننفيه!!
ولقد أصبح من الحقائق المقررة أن العلم البشري - جملة - له حدود لا يستطيع تجاوزها، وأن إخضاع عالم الغيب لما علمه البشر من عالم الشهادة - وهو ضئيل جداً - أمر في غاية الاعتساف والغرور، فما بالك بمن يُخضع الوحي المعصوم والعلم الإنساني بكامله لفكر رجل واحد عاش في أمة جاهلية قديمة كانت البشرية ما تزال تحبو في أدنى درجات العلم؟!
غير أن الذي حصل في تاريخ الإسلام كان بخلاف هذه الحقيقة، وقد اجتمعت له أسباب كثيرة، منها المؤامرات والدسائس الحاقدة، ومنها الاجتهادات المخطئة، ومنها المتابعة بلا بصيرة، ومنها الترف الفكري...إلخ.
وكانت النتيجة أن أخضع الوحي - مِنَّة الله الكبرى على العالمين ونعمته العظمى للثقلين - لآراء الخراصين وتوهمات المضلين، فأخضعت الحقائق الشرعية للمقاييس اليونانية، وصدّق من يسمون علماء الكلام أن التصورات لا تنال إلا بالحدود على النحو الذي قرره
أرسطو و
فرفريوس!!
وطبقوا ذلك على الموضوع الأكبر الذي شغل الأمة منذ ظهور
الخوارج؛ وهو موضوع الإيمان
فوضعوا سؤالاً هو: ما الإيمان؟ وأخذوا يبحثون في جوابه على الأسلوب المنطقي الذي يقصد من التعريف تصور الماهية -كما سبق في القضية الأولى-.
ومن طبيعة الحد أو التعريف أو القول الشارح - وهي ألفاظ مترادفة - أنه مفهوم كلي يندرج فيه كل ما يصدق عليه اللفظ المعرّف، والنوع الذي هو أحد الكليات الخمس عندهم هو تمام الماهية، فمتى كان التعريف بالحد التام؛ أي: المشترك الذاتي (الجنس) والمميز الذاتي (الفصل) معاً، حصل تصور تمام الماهية المعبر عنه بالنوع.
والخطأ الأساسي الذي وقع فيه
أرسطو ويقع فيه كل المناطقة أنه - مع زعمه أن التصورات لا تنال إلا بالحدود - وضع الحد بناء على تصور سابق، وهذا هو الدور الذي يقولون بامتناعه؛ وذلك أن
أرسطو نظر إلى آحاد الناس مثل زيد وبكر وعمرو وحلل صفاتهم مميزاً بين الذاتيات الداخلة في الماهية، والعرضيات اللازمة، والعرضيات غير اللازمة، واستخرج من الذاتيات الداخلة في الماهية - في نظره - ماهية الإنسان وحقيقته التي هي القدر المشترك من هذه الذاتيات، وهي كما زعم (الحيوانية والناطقية) معاً (الصفة الأولى جنس والأخرى فصل) كما سبق .
ثم أثبت وجود هذه الماهية في الخارج، أي: في الوجود الحقيقي - كما في القضية السابقة - وهذه الماهية هي عنده وجود مطلق لا يوصف بالزيادة ولا بالنقصان ولا بأي صفة أخرى، بل كل من ينطبق عليه اسم الإنسان من الآحاد فهذه الماهية متحققة فيه على السواء، بحيث إنه لو قلنا: إن فرداً من أفراد النوع أقوى في الماهية أو أضعف لكان هذا إثباتاً لنوع آخر.
ولهذا اعتبر
أرسطو تمام الماهية هو التعريف أو الحد، وجاء المناطقة بعده وعلى رأسهم
فرفويوس المتوفى سنة 303م فسموا تمام الماهية النوع، والخلاف لفظي.
والمهم لنا هو أنهم عرفوا النوع بأنه: الكلي المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب ما هو .
فالقول باختلاف الحقيقة يتنافى وهذه الماهية!!
وهذا الخطأ نفسه بما فيه من دور وقع فيه المتكلمون حين أرادوا تعريف الإيمان متبعين المسلك المنطقي - أي: تعريفه من حيث هو في ذاته كما يقولون- فقد نظروا أولاً إلى من يطلقون هم عليه اسم الإيمان من الآحاد على تفاوتهم، واستخرجوا القدر المشترك بينهم - الذي اعتبروه الصفة أو الصفات الذاتية الداخلة في الماهية - وجعلوا هذا القدر هو حقيقة الإيمان وماهيته المجردة.
وبعد أن تصوروا هذه الماهية وعبروا عنها - كل بحسب لفظه - أخذوا يحكمون على أي فرد بأنه مؤمن أو غير مؤمن بناءً على وجود هذه الماهية لديه أو عدمها، ثم وصفوا هذه الماهية بما وصف به المناطقة النوع، فقرروا أن المؤمنين سواء في إيمانهم، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن نقص الماهية عدم، وقبول الزيادة دليل على النقص وهو عدم، فكذلك الإيمان شك، وقبول الزيادة يعني أنه ناقص فهو شك!!
وهذا تفصيل ما أجملناه:
1- الأفراد التي استخرجوا منها القدر المشترك (الماهية):
يطلق
المرجئة اسم الإيمان على كل من هؤلاء:
أ- جبريل ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ بدلالة الإجماع ].
ب- من أقر بالإيمان ولم يعمل شيئاً [ بدلالة حديث الجارية بزعمهم ].
جـ- من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه [بدلالة اللغة، ولأن الكلام عندهم هو الكلام النفسي].
وطبيعي أن بين هذه الدرجات في الإيمان درجات أخرى كإيمان أواسط الصحابة، وإيمان الفاسق من أهل الصلاة، ولكن هذه المراتب الثلاث هي كالأركان نظرياً .
2- فلما أرادوا استخراج القدر الكلي المشترك بين هذه الدرجات ليتصوروا ماهية الإيمان وحقيقته مع حذف صفاتها العرضية، كان طبيعياً ألا يدخلوا الأعمال في الإيمان؛ لأنها مفقودة بكاملها عند أصحاب الدرجة [جـ].
واختلفوا في إدخال النطق باللسان الذي هو موجود عند أصحاب الدرجة [ ب ]، لكنه مفقود عند أصحاب الدرجة [جـ]: أهو ذاتي داخل في الماهية أم لازم عرضي.
3- ومن هنا جاءت حدودهم - أو تعريفاتهم - للإيمان خالية من ذكر عمل الجوارح بمرة، بل محصورة في عمل قلبي واحد هو التصديق أو الاعتقاد؛ كقولهم: (الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بدليل) أو (التصديق بما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان معلوماً بالضرورة) أو (اعتقاد صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبر به) وما أشبه ذلك مما يستجلي عند ذكر نصوصهم في اشتراط النطق أو عدمه.
والمهم أن قاعدة (تساوي أفراد النوع في حقيقته وماهيته) التي استعاروها من المنطق وطبقوها هنا أفسدت عليهم تصورهم، وجعلتهم يعرضون عن كل النصوص الواردة في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه ودخول الأعمال فيه، أو يتعسفون في تأويلها حتى تسلم لهم هذه القاعدة.
ومن أخطر النتائج التي رتبوها على ذلك قولهم بتساوي إيمان الملائكة والأنبياء كجبريل ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع إيمان الفساق المنهمكين في الفسق، بل وإيمان من لم يقل: لا إله إلا الله بلسانه، وإنما صدق بقلبه بزعمهم!!
وهذه النتيجة مع منافاتها للبدهيات الثابتة عند عوام المسلمين سطروها وقرروها بإطناب وإسهاب، فلما صدمهم اعتراض المسلمين التمسوا تقييدات واهية تغض من مقام النبوة أكثر مما ترفعه عن مستوى الانهماك في الفسق!!
ونكتفي من كلامهم بنصين عن رجلين من كبار أئمتهم المتقدمين:
1-
أبو بكر بن فورك:
أحد كبار
الأشاعرة المتوفى سنة 403هـ أو بعدها.
وقد شرح كتاب
العالم والمتعلم المنسوب للإمام
أبي حنيفة، وأطال في تقرير هذه القاعدة حتى استغرقت منه أكثر من عشر لوحات
بكلام فلسفي مجرد، نذكر منه ما نقله عن المتن المنسوب للإمام وهو: قال المتعلم: أخبرني من أين ينبغي لنا أن نقول: إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل، وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا؟
قال العالم: ''قد علمنا أنهم كانوا أطوع لله منا، وقد حدثنا أن الإيمان غير العمل، فإيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا صدقنا من وحدانية الرب وربوبيته وقدرته بما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.
فمن هاهنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب الله تعالى ولم نعاينه''
.
ثم شرحه مبيناً أن التصديق جنس واحد لا يفضل بعضه بعضاً، وعلل ذلك بقوله: ''لأن تصديق القلب هو الإيمان، فإذا اعتقد النبي صدق الله في أخباره، واعتقدنا صدقه في أخباره تعالى - كان جنس اعتقادنا بصدقه جنس اعتقاده بصدقة بلا تفاوت''
.
ثم أسهب في بيان أن فضل الأنبياء في الإيمان على سائر الخلق إنما هو بالنظر للعاقبة والثبات، فإيمان الأنبياء معصوم عن الردة والكفر بخلاف غيرهم، فاحتمال طروء ذلك عليه قائم.
وأخيراً أجاب عن إشكال وارد؛ وهو إذا كان إيمان سائر البشر كإيمان الأنبياء، فلماذا فضل الله الأنبياء عليهم في الأجر والثواب؟!
ونقل ما في المتن ثم شرحه وهو: ''قال المتعلم: لَحَسَنٌ ما فسرت، ولكن أخبرني: إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل، أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم؟ فلم فضلهم علينا وقد استوينا في الإيمان في الدنيا، واستوينا في ثواب الإيمان في الآخرة؟
وإن كان ثواب إيماننا في الدنيا دون ثواب إيمانهم، أليس هذا ظلماً إذا كان إيماننا مثل إيمانهم، ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم؟
قال العالم: قد أعظمت المسألة ولكن تثبت في الفتيا؛ ألست تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الرسل، ولهم بعد علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة؛ لأن الله تعالى كما فضلهم بالنبوة على الناس كذلك فضل صلواتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء!!
ولم يظلمنا ربنا إذ لم يجعل لنا مثل ثوابهم؛ وذلك أنه كان إنما يكون الظلم إذا أنقصنا حقنا فأسخطنا، فأما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقنا وأعطانا حتى أرضانا فإن ذلك ليس بظلم ''
.
2-
أبو المعالي الجويني:
كبير
الأشعرية في عصره وشيخ
أبي حامد الغزالي
يقول: ''فإن قيل: فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟ قلنا: إذا حملنا الإيمان على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقاً كما لا يفضل علم علماً،
ومن حمله على الطاعة سراً وعلناً -وقد مال إليه
القلانسي فلا يبعد على ذلك إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا مما لا نؤثره!
فإن قيل: أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان منهمك في فسقه كإيمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلنا: النبي عليه الصلاة والسلام يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك واختلاج الرِّيب.
والتصديق عرضٌ
لا يبقى، وهو متوال للنبي عليه الصلاة والسلام، ثابت لغيره في بعض الأوقات، زائل عنه في أوقات الفترات
فيثبت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعداد من التصديق لا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه بذلك أكثر.
فلو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان، وأريد بذلك ما ذكرناه لكان مستقيماً فاعلموه ''
.
وهذه النصوص تغني عما عداها، ومجرد الاطلاع عليها كاف في تصور فسادها والحكم بمخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول!
وعلى مثل هذه الشبه الواهية اعتمد أتباعهم في الحكم على من يدخل العمل في الإيمان بأنه موافق لمذهب
الخوارج،
ناسين أن هؤلاء موافقون موافقة تامة لرأي
الفلاسفة!
هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أن المنطق في ذاته لا يقتضي بالضرورة إخراج العمل من الإيمان، أو القول بأنه لا يزيد ولا ينقص، ونزيد هذا إيضاحاً فنقول: إن
المرجئة لو تركوا مبحث التعريف بمرة، واكتفوا بما يذكره المناطقة في مبحث الأسماء -نسبة الاسم للمعنى- وهو قولهم: ''إن الكلي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المتواطئ؛ وهو الذي تستوي جميع أفراده في صدق الكلي عليها واشتراكها فيه، مثل: إنسان ومثلث وشجرة...
والقسم الثاني: المشكك، وهو الذي لم تتساو أفراده في صدق الكلي عليها وذلك بأن يكون المعنى المقصود من الكلي أولى في بعضها من البعض الآخر، أو أقدم منه، أو أشد، أو أقوى...، وذلك مثل الضوء - فإنه في الشمس أقوى منه في المصباح...''
.
أقول: لو فعلوا ذلك واعتبروا الإيمان من القسم الأخير لأراحوا واستراحوا، لكن الذي حصل هو العكس، فإنه لما فطن متأخروهم إلى هذا أخذوا يتعسفون في تخريجه كي يوافق المذهب، وخاضوا في ماهية المشكك، فعاد الأمر إلى قضية الماهية التي لم يستطيعوا التخلي عنها!!
يقول صاحب
المسايرة بشرح المسامرة: والحنفية، ومعهم
إمام الحرمين وغيره وهم بعض
الأشعرية، (لا يمنعون الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي) أي تلك الجهات، (غير نفس الذات) أي ذات التصديق، (بل بتفاوته) أي بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات، (يتفاوت المؤمنون) عند الحنفية ومن وافقهم، لا بسبب تفاوت ذات التصديق.
[ وروي عن
أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه قال: إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول: مثل إيمان جبريل؛ لأن المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضيه ] أي: لا يقتضي ما ذكر من المساواة في كل الصفات، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعضها!!
(فلا أحد يسوي بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء) من كل وجه، (بل يتفاوت) إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء، (غير أن ذلك التفاوت) هل هو (بزيادة ونقص في نفس الذات) أي ذات التصديق والإذعان القائم بالقلب،
( أو ) هو تفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات بل (بأمور زائدة عليها؟ فمنعوا) يعني: الحنفية وموافقيهم (الأول ) وهو التفاوت في نفس الذات.
أقول: هنا أحس المؤلف بأن الاعتراض سيرد على كلامه عن مدى ضرورة هذا التفريق، ولم لا يعتبر من قبيل المشكك ويلغي موضوع النوع؟
فقال: '' فنحن -معشر الحنفية ومن وافقنا- نمنع ثبوت ماهية المشكك، ونقول: إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه يكون التفاوت عارضاً لها خارجاً عنها، لا ماهية لها ولا جزء ماهية؛ لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها!!
و (لو سلمنا ثبوت ماهية المشكك) فلا يلزم كون التفاوت في أفراده بالشدة؛ فقد يكون بالأولوية وبالتقدم والتأخر!!
(و) لو سلمنا (أن ما به التفاوت) في أفراد المشكك (شدة كشدة البياض الكائن في الثلج بالنسبة إلى) البياض (الكائن في العاج)...(مأخوذ في ماهية البياض بالنسبة إلى خصوص محل) كالثلج، (لا نسلم أن ماهية اليقين منه) أي من المشكك.
(ولو سلمنا أن ماهية اليقين تتفاوت لا نسلم أنه) يتفاوت (بمقومات الماهية) أي: أجزائها (بل بغيرها) من الأمور الخارجة عنها العارضة لها كالإلف للتكرار ونحوه....''
.
ولا نريد الاسترسال في نقل مثل هذا التفلسف، ولا الرد عليه تفصيلاً من جنس كلامه، وحسبنا أننا عرفنا مأخذ القوم وأصل قولهم!! ثم نكتفي في الرد عليهم بما أجمله
شَيْخ الإِسْلامِ في نقض أصولهم وشبهاتهم مما هو في الحقيقة تفصيل وشرح لما ألزم به الإمام
أحمد أسلافهم من قبل، إلا أن في كلام
شَيْخ الإِسْلامِ زيادة تتعلق بالقواعد المنطقية التي عرضناها هنا.
يقول
شَيْخ الإِسْلامِ في بيان أصول غلط
المرجئة عامة: ''وهؤلاء غلطوا من وجوه:
أحدها: ظنهم أن الإيمان فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص.
وليس الأمر كذلك؛ فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً.
فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول و
مات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيها من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبرٍ خبرٍ وأمرٍ أمرٍ ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل- لموته قبل أن يبلغه شيء آخر.
وأيضاً لو قدر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه، وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين ''
.
ويزيد ذلك إيضاحاً -في موضع آخر- ببيان أن معارف القلب تتفاضل، وأعماله أيضاً تتفاضل - فيقول: '' إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب على هذا ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبراً، وعلى أن يحتاج إلى العمل إن كان أمراً، وعلى العلم به إن كان علماً.
وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه؛ فإن هذا لا يقدر عليه أحد.
فالوجوب مما يتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة (يعني: قدراتهم) .
ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل والقوة والضعف ودوام الحضور، ومع الغفلة فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها ذكرها في قلبه، ثم رغب الله في كشف الريب.
ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله والتوكل عليه والصبر على حكمه والشكر له والإنابة إليه وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلاً لا يعرف قدره إلا الله عز وجل، ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره وإما معاند ''
.
أقول: وفي هذا الكلام الواضح البرهان ما يرد على من زعم من
المرجئة أن الإيمان لا يتفاوت مطلقاً، أو من زعم أنه يتفاوت بأمور خارجة عن الماهية -كما سبق- فإن هذا ينفي تلك الماهية الموهومة أصلاً، ويبطل قاعدة استواء الأفراد في الماهية بالمرة، ثم إنه يبين فساد أصل عظيم من أصول الإرجاء، وهو ما يشترطونه عادة عند تعريف الإيمان تعريفاً منطقياً كقولهم: (التصديق بما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان معلوماً من الدين بالضرورة) أو (وثبت عنه قطعاً) وما أشبهها.
فإنهم يشترطون فيما يؤمن به الثبوت القطعي أو العلم الضروري؛ لأنهم يريدون تحديد تمام ماهية الإيمان التي إذا نقصت ذهب الإيمان كله، ولا بد من تساوي أفرادها فيها كما سبق.
ويعلمون أنهم لو أدخلوا الإيمان بالأعمال كلها في الإيمان للزمهم نفي الإيمان عمن لم يؤمن بالنوافل أو الواجبات التي لا يعرفها كل أحد، فينتقض عليهم التعريف من أساسه، فقيدوا ذلك بما ثبت قطعاً لا بما ثبت آحاداً -بزعمهم- أو بما علم بالضرورة لا بما لا يعلم إلا بالتعلم والتنقيب.
وهذه القيود لا تعفيهم ولا تغنيهم؛ فإنهم يمثلون لما علم بالضرورة أو ثبت قطعياً بتحريم الخمر، فهل يلتزمون أن كل من لم يؤمن بتحريم الخمر كافر؟
لا أحسبهم يؤمنون بذلك واقعاً -وإن سطروه نظرياً- فإنه من المعقول جداً أن يكون بعض المسلمين في أطراف الأرض -لا سيما العجم- لم يبلغه هذا التحريم قط، وهو مع ذلك مؤمن بما بلغه من الإيمان المجمل وأداء الفرائض، فهل يكفرون مثل هذا؟!!
فإن لم يكفروه -وهو ظني بهم- فيلزمهم بطلان ما استحدثوه من تحديد للإيمان يشترطون تحققه في كل مؤمن، والرجوع عن كل ما تركه المنطق في مباحثهم من آثار وأصول.
ولنتابع النقل عن
شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- قال: ''وهؤلاء منتهى نظرهم أن يروا حقيقة مطلقة مجردة تقوم في أنفسهم، فيقولون: الإيمان من حيث هو هو، والسجود من حيث هو هو، لا يجوز أن يتفاضل ولا يجوز أن يختلف وأمثال ذلك، ولو اهتدوا لعلموا أن الأمور الموجودة في الخارج عن الذهن متميزة بخصائصها، وأن الحقيقة المجردة المطلقة لا تكون إلا في الذهن، وأن الناس إذا تكلموا في التفاضل والاختلاف فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمر مطلق مجرد في الذهن لا وجود له في الخارج.
ومعلوم أن السواد مختلف؛ فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان، وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق الذي يتصوره الذهن - فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، ولكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان ''
.
ويزيد ذلك إيضاحاً في
الإيمان قائلاً: ''وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل، فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، فقلت له: قولك من حيث هو، كما يقال: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان، فيثبت لهذه المسميات وجوداً مطلقاً مجرداً عن جميع القيود والصفات، وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجوداً لا قديماً ولا حادثاً، ولا قائماً بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنساناً لا موجوداً ولا معدوماً، ويقول: الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج.
وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن - كأثر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين، ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن.
فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، وتقدير إنسان لا يكون موجوداً ولا معدوماً، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، وليست هي هي، وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن.
وكذلك إذا قيل: إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين، ليس هو الإيمان من حيث هو هو، بل هو إيمان معين، وذلك الإيمان يقبل الزيادة.
والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيماناً مطلقاً، أو إنساناً مطلقاً، أو وجوداً مطلقاً، مجرداً عن جميع الصفات المعينة له، ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس، وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد؛ إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره.
ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص المعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علماً وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره، ولا يكون في الخارج.
وهكذا كثير من
الفلاسفة تصوروا أعداداً مجردة وحقائق متجردة، ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزماناً مجرداً عن الحركة والمتحرك، وبعداً مجرداً عن الأجسام وصفاتها، ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج.
وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين، والاثنين واحداً، فتارة يجيئون إلى الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين.
والمتفلسفة و
الجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاءوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخرى، وجعلوا الصفة هي الموصوف.
وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحداً، وفي كونه متماثلاً، كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل التوحيد والصفات والقرآن ونحو ذلك، فكان غلط
جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته، سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً ''
.
وهذا الكلام النفيس على درجة من العلمية لو تأملها
الفلاسفة والمناطقة -شرقيين وغربيين، قدامى ومحدثين- وأصحاب وحدة الوجود، ومنكرو الصفات و
المرجئة؛ لكانت كافية في إقامة الحجة على الجميع، فرحمه الله رحمة واسعة .